قراءة في كتاب تاريخ الصومال: رؤية تحليلية جديدة… الجزء الأول
برز هذا الكتاب كمحاولة لمراجعة تاريخ الصومال مراجعة موضوعية ونقدية
يقدم المؤرخ والأكاديمي الصومالي د.عبدالرحمن باديو نظرات مميزة للتاريخ الصومالي. ومن تلك النظرات التحليلية هذا الكتاب الذي سنعرض بعضا من محتويات جزئه الأول في هذا المقال.
برز هذا الكتاب كمحاولة لمراجعة تاريخ الصومال مراجعة موضوعية ونقدية، وتحقيق عميق لمنتجات الانقسام في صفوف الصوماليين. ويقول الكاتب في أوائل صفحات الكتاب “وهذه المهمة العظيمة هي ما يحاول هذا الكتاب أن يؤسس لها لعلَه يكون بابا يفتح الطريق لأولئك القادرين على العمل على ذلك سعيا لإدراك تاريخنا الغير المتماسك. وآمل أنني لا أجانب الصواب بقولي إن هذا الكتاب بمثابة منجز هام جدا في سبيل تطوير حس من الارتباط بالوطن، وفهم تحديات الماضي ومعضلاته، والحفاظ على الذاكرة الجمعية، وإثراء الخيال التاريخي المفتقد والمساهمة في إحياء مفاهيم الأمة والتاريخ.”
في الفصل الأول يقدم الكاتب نماذج لها أدوار مختلفة في صياغة التاريخ محاولة منه لإدراك تاريخ شبه الجزيرة الصومالية والمرتبات التي مرت بها الأمة والأيدولوجيات التي صاحبت تلك الحقب. من هذه النماذج، القومية التي اجتاحت معظم البلدان عقب الاستعمار وكيف ساهمت في التحرك الى الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، ويقارن بين قادة اليوم الذين أصبحوا أكثر وعيا ونضجا بعد فهم العلاقة القبيلة والإسلام مع مجتمعهم، عكس قوميي أمس الذين سعوا لتقزيم دور الإسلام في المجتمع بعد تشبعهم من نبع الحداثة. ومن ثم يتعمق في كشف معايير الرؤية الاستشراقية التي رسمت العالم الغير الأروبي كغابة يعيش فيها همج غير عقلانيين يحتاجون إلى الدول المتحضرة للحاق بالعالم الحديث ويقوم جوهر هذه النظرية على أن التراث (الإسلام والقبيلة في الحالة الصومالية) يحتضر ويتلاشى مع مرور الزمن. ويستمر الكاتب مستنيرا بدراسات إدوارد سعيد ودور الإستشراق في تشكيل صورة نمطية في عقل الغربيين عن الشرق وهويته وتاريخه، ويتعامل مع النموذج الاستشراقي بمنهجية، ويشمل انتقاده أدلة من رموز أكاديمية صومالية التحقوا بالمدرسة الاستشراقية في تحليلاتهم للتاريخ الصومالي قبل أن يغيروا اتجاههم ويعودوا إلى رؤية أكثر شمولية وواقعية.
ومن أهم النقاط في هذا الفصل سعي المؤرخ لإلغاء التخيلات التي ربطت بداية التاريخ الصومالي بظاهرة الاستعمار، وهذه تخيلات نتجت من قلة الاهتمام التي حظي بها تاريخ الصومال القديم لقلة الدراسات المتوفرة. ويبدأ بالبحث عن تاريخ شبه الجزيرة الصومالية من العصور القديمة إلى العصور الإسلامية الوسطى في الفصل الثاني، ويضع إطارا عاما للتاريخ الصومالي بدأ من فترة ما قبل التاريخ مرورا بالتاريخ القديم لشعب يٌنظر إليه غالبا كشعب بلا تاريخ رغم موقعه الاستراتيجي الذي يربط إفريقيا بآسيا وأروبا ويتحدى الفرضية التي تقترح بأن الشعب الصومالي هاجر إلى أرضه الحالية من هضاب الحبشة أو من جنوب شبه الجزيرة العربية وهذه فرضية تدحضها أدلة كثيرة حول التاريخ القديم، منها العلاقات الاقتصادية التي كونها الصوماليون مع شعوب وحضارات العالم القديمة مثل الهنود، والبابليين، والفراعنة الذين استوردوا البخور واللبان من شرق الصومال أو كما أسموها أنذاك “بلاد الآلهة”، وظهر هذا الاسم بسبب استخدام الفراعنة اللبان لغرض ديني في معابدهم. وتضيف الرحلات التي دونها الرحالة اليوناني المجهول في كتابه “الطواف حول البحر الإريتري” كمًّا كبيرا من الأدلة التي تظهر عدم ثبوت فرضية الشعب المهاجر أو المحتل كما قال المؤرخ أيوان لويس الذي عنون ورقته التي نشرها في صحيفة التاريخ الإفريقي ب”الاحتلال الصومالي للقرن الإفريقي”. وفي نفس الفصل أيضا يؤرخ الدكتور لقدم الإسلام في الصومال والدور الذي لعبه لتوثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الصومال والجزيرة العربية ويركز على الفترة الإسلامية من العصور الوسطى والانطباعات التي دونها الرحالة ابن سعيد المغربي، ومحمد الإدريسي، وابن بطوطة لوصف الحالة الاجتماعية البارزة آنذاك.
آثار الاستعمار في تشكيل المجتمع الصومالي ظاهرة لهذا اليوم حيث قسمت القوات الأوروبية الأراضي الصومالية بين ثلاث دول أوروبية وإمبراطورية الحبشة التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع الغرب، واستفادت من تلك العلاقات والفرص لتضم جزءا كبيرا من أراضي الصومال إلى أراضيها ولا زالت تلك البقعة الصومالية مغتصبة إلى هذا اليوم. ويتناول الكاتب هذه الآثار في الفصل الثالث مشيرا إلى طريقة العيش في الصومال قبل الاستعمار ودور الطرق الصوفية في تنظيم المجتمع وتعليمه. ومن ثم ينتقل لبيان كيفية دخول المستعمرين إلى الأراضي الصومالية بعد عقد ثلاثي الاستعمار (فرنسا، بريطانيا، وإيطاليا) اتفاقيات مع السلطنات والعشائر الصومالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتوسعهم في العقد الأخير من نفس القرن على كافة الأراضي الصومالية، وفي نفس الوقت توسعت الحبشة على الأراضي الصومالية إلى أن استولت على مدينة هرر، والصومال الغربي بتشجيع ومساندة من بريطانيا.” وبهذا الانقسام دخل المجتمع الصومالي القرن العشرين لتبدأ موجات من المقاومة في أماكن مختلفة في البلاد”.
وبدأت فترة مقاومة الاستعمار في جميع أنحاء البلاد، وكانت البداية بمثابة مناورات واغتيالات فردية نفذتها مجموعات قليلة العدد والعتاد مثل اغتيال جنرالات إيطاليين في مدينة: مَرْكَهْ، وعَدَلِهْ، وأماكن قريبة من مدينة لَفٌولِي. رد الإيطاليون على هذه الاغتيالات بقصف وهدم بعض القرى بأكملها. أجبرت تلك الفظائع الصوماليين على تحسين تنظيمات المقاومة، وتولى علماء الدين وزعماء القبائل قيادة المقاومة. وبرزت أسماء مثل السيد محمد عبد الله حسن قائد حركة الدراويش التي حاربت البريطانيين والحبشة وأنهكتهم إلى أن استخدمت بريطانيا سلاحها الملكي الجوي في إفريقيا لأول مرة وضربت مركز الحركة وعاصمتها ودمرت قلاعها لتنهي مقاومة استمرت لأكثر من عقدين. ومن الأسماء البارزة في ميدان مقاومة الاستعمار الشيخ حسن برسني الذي حارب هو أيضا التوسع الحبشي في جنوب الصومال وأجبرهم على التراجع كما كان لديه مسيرة طويلة في النضال ضد الاستعمار الإيطالي إلى أن وقع أسيرا في أيدي الإيطاليين ليموت في السجن مسموما سنة 1926.
ويتجلى التأثير الأكبر للاستعمار في أداتين رئيسيتين حسب الكاتب وهما التعليم الحديث الذي أدى بدوره إلى سياسة “مهجنة غربيا”، ويحلل تأسيس الاستعمار للتعليم بقيم غربية وإقصاء التعليم الإسلامي (القرآن واللغة العربية)، والتناقض الذي انتشر في السياسة، وطريقة الحكم، وبروز العشائرية السياسية في البلد. وينتقل بعد هذه التحاليل إلى نهوض القومية الصومالية وسقوطها بعد التأرجح بين الاعتدال والتطرف.
وذكر انهيار الدولة الصومالية وما رافقه من سياقات وآراء في الفصل الأخير من الكتاب. وتظهر لنا هنا التحديات التي واجهت الحكومة الصومالية منذ الاستقلال مثل النقص الكبير في القدرات، والتشتت في الأفكار، والضغوطات الخارجية. إضافة إلى ذلك لعب التحدي الجغرافي وحساسية الموقع، وانقسام الشعب، والصراع بين الحكومة التي سلكت طريق العلمانية والمجتمع المحافظ لدينه وقيمه الثقافية والإسلامية دورا كبيرا في تعجيل الانهيار أو جعله مصيرا محتوما. ويختم الكتاب بنظريات مختلفة في فلك الدولة، ونظريات الصراع الإجتماعي الذي يؤدي إلى ضعف الحكومات وانهيارها مثل نظرية العصبية لابن خلدون الذي درس المجتمعات البدوية، وتشكلها، وتفككها.
بعد دراسة النظريات يشرع الكاتب في سرد آراء مختلفة حول انهيار الدولة الصومالية مثل رأي أثر الحرب الباردة التي اتخذت الصومال مسرحا لها، وشح المساعدات الخارجية بعد محاولة استعادة الأراضي الصومالية من أثيوبيا عام 1977.
وختاما، فالتاريخ ظاهرة فريدة لها أبواب متعددة تمكن البشرية من دراسة ماضيها، واكتشاف ثقوب العيب فيه للتجنب من تكرارها، وهذا الكتاب محاولة جادة تستحق الإشادة، وأن يكون مرجعا سليما لعدم انحيازه وتحليلاته الفريدة.
No comments yet. Login to start a new discussion Start a new discussion