الإسلام في الهوية الصومالية: نظرة كرونولوجية
وللهوية كما ذكرها د. مختار الغوث في كتابه "اللغة هوية" ركنان، وهما الدين واللغة. واللغة هنا تحمل في جوفها مجمل الملامح الثقافية للشعب. فالشعوب التي تدين بالإسلام يوحدها أهم أركان الهوية، ألا وهو ركن ا
من سٌنة الحياة أن يعيش البشر في جماعات، ومن الطبيعي أن يكون لكل جماعة من البشر رؤية ذاتية تميزها من البقية، وقد تٌبنى هذه الرؤية على المعتقد الديني أو العرقية أو اللغة، أو مزيج من هذه العناصر الثلاثة وغيرها.
وهذا التميز الذي تعلقه كل جماعة بشرية على صدرها كلافتة اعلان يسمى "الهوية". والهوية مصلح مطاط، يمكن جره الى جهات عدة. ففي العربية يتم ارجاع الكلمة الى الضمير هٌو، ويذهب الغرب الى مقولة اقصائية للتعريف عنها وهي " لا يمكن معرفة الانسان دون معرفة عدوه". وبين الضمير "هو" الذي يحاول تعريف شخص/شعب ما دون اقصاء او اللجوء الى صناعة "آخر" أولا، والمقولة الاقصائية يتبين مفهوم الهوية عند الفرد/الشعب الصومالي الذي ننوي الكلام عن هويته في الفقرات القادمة.
وللهوية كما ذكرها د. مختار الغوث في كتابه "اللغة هوية" ركنان، وهما الدين واللغة. واللغة هنا تحمل في جوفها مجمل الملامح الثقافية للشعب. فالشعوب التي تدين بالإسلام يوحدها أهم أركان الهوية، ألا وهو ركن الدين بينما تختلف في لغاتها التي تعبر عن ثقافاتها المتباينة..
نشرت الدكتورة فاطة بنت الشيخ محمد حوش مقالا على صفحتها تناولت فيه مقتطفات من ورقة بحثية تحدثت عن دور المعاهد الشرعية في حفظ الهوية الأمة الصومالية. كانت قراءة تلك المقالة شرارة أشعلت لهب الأسئلة عن الإسلام وصلته بالهوية الصومالية. تدفقت التسألات من جوانب متفرقة إلا أن إيماني بقدرة النظرة الكرونولوجية او التسلسل الزمني على توفير الأجوبة طغى على باقي الجوانب، وشرعت أتتبع التاريخ وأقفز من حقبة الى أخرى ملاحظا التغيرات الطارئة على الهوية الصومالية ودور الإسلام فيها. هذه المقالة محاولة لتثبيت مكانة الإسلام في الهوية وتصد تاريخاني للمحاولات التي تسعى لزعزعته من تلك الصدارة.
شهادة من التاريخ
تعرّف الصومالييون على الاسلام في القرن الأول الهجري وأسلمو طوعا ودون تردد ويمكن ارجاع هذه القناعة الجماعية بالاسلام الى الدين الذي كانو يدينون به من قبل، اذ كانو يؤمنون بإلاه سماوي اسمه واق. عند دخول الاسلام الى القرن الافريقي توحدت الشعوب التي تقطن اليوم شمال غربي الصومال وجنوب شرقي اثيوبيا وكونو إمارات الاسلامية وحوصرت المسيحية على مرتفعات أبسينيا
.
في هذه الفترة كانت النظرة الدينية الى "الآخر" مسيطرة ليس على الشعب الصومالي وحسب بل وعلى جميع الشعوب المسلمة في المنطقة. كان الآخر بالنسبة لهم هو المسيحي الذي يقطن على مرتفعات الحبشة او الشعوب التي تدين بالأديان الوثنية. كانت الحروب تحت راية الإسلام ولم تكن النظرة العرقية الى الآخر سائدة رغم التعدد اللغوي الرهيب في الإمارات الإسلامية.
قٌبيل الاستعمار كان الشعب الصومالي في جنوب وشرق الصومال مقسما تحت امارات وسلطنات مستقلة عن بعضها البعض وكانت المدن الساحلية شريان اقصادي، ورعي الانعام والترحال لحاقا بالماء والكلأ أبرز سمة الحياة للشعب.وكانت الهوية العشائرية التي تأسست عليها مسيرة الحياة في تلك الفترة سيدة الموقف. أتى الاستعمار في النصف الاخير من القرن التاسع عشر، وجلب معه اساليب حياة غريبة عن الشعب. سلك الاستعمار مسلكه المعتاد بقطع الأواصر بين الشعوب وتقسام الأراضي الصومالية وحدها ثلاثة دول مستعمرة واثيوبيا.
بدأت المقاومة التي بُنيت على الاسلام لأول مرة وكان الجهاد الوسيلة الوحيدة لتحرير الأمة الصومالية من الاستعمار. وكان علماء الدين قادة هذه المقاومات، وأبرزها حركة الدراويش في شمال الصومال وحركة الشيخ حسن برسني في جنوب الصومال. هٌزمت المقاومات بعد معارك طويلة مع الاستعمار البريطاني والايطالي والحبشي. وبعد هزيمة المقاومات شرع الاستعمار بتقديم قوانين جديدة وأسس المدارس العلمية الحديثة وهمش دور التعليم الديني وأقصاه الى المناطق الريفية لإعادة تشكيل الهوية الصومالية كما يريد وهدم ركن الاسلام لأنه لولا هذا الركن لما قامت أية مقاومة ضد الاستعمار في اي بلد من بلاد المسلمين. ويقول علي عزت بيغوفيتش مبينا دور الاسلام في مقاومة الاستعمار "إن جميع الحروب التي خاضها المسلمون لتحرير بلادهم ابتداء من رأس القرن التاسع عشر وحتى الحرب الافغانية اليوم، كانت تحت راية الجهاد ، أي: قامت باسم الحرب الاسلامية الدفاعية المقدسة."
أنتجت المدارس الحديثة التي فتحها االاستعمار جيلا يحتقر دور الاسلام في هوية الشعب وينحاز الى القومية الوطنية المبنية على الاثنية واللغة. استلم هذا الجيل الحكم من الاستعمار لدى مغادرته وقامت الجمهورية الصومالية المستقلة المكونة من منطقتين من أصل خمسة مناطق يسكنها الصوماليون في القرن الإفريقي. كانت الجمهورية الفتية تغرد في واحة وحدة القومية الصومالية وبينما تبحث عن الوحدة كانت تهدم عوامل الوحدة الأزلية لدى الشعب وهما الإسلام والعشائرية. ويقول المؤرخ الصومالي الدكتور عبدالرحمن باديو في المجلد الثاني من كتابه "تاريخ الصومال: رؤية تحليلية جديدة" حين تناول تشكل الهوية القومية الصومالية: " تشكلت الهوية القومية الصومالية إبان حكم الجمهورية الصومالية الاولى (1960-1969)، وكان الشعب حينها متجانسا يعيش في ظل دولة وحدوية تتبع النظام العلماني، اما العشائرية فتمت شيطنتها وتقلص دور السلطة التقليدية (رؤساء العشائر وعلماء الدين)."
ويستمر مبينا تشكل الهوية القومية المرتكزة على نقض الإسلام واستبعاده من مركز الهوية الصومالية واستبداله بالقومية الوطنية في الدولة الحديثة ويقول في موضع آخر
"وكان مفهوم الدولة الوطنية الحديثة وممارسات النخب ذات الميول العلمانية تعيد تشكيل التقاليد الدينية والتدين والقيم الشرعية لسكان المناطق الحضرية، فقد زرعوا القيم الغربية الجديدة التي تتعارض مع القيم الإسلامية وتغاضوا عنها، في حين لم ينتهكوا القيم الإسلامية رسمياً، وتغيرت العلاقة بين الدولة والإسلام بشكل كبير إبان حكم النظام العسكري الذي تولى السلطة في عام 1969. وتبنى النظام العسكري الفكر الاشتراكي، وحاول في البداية أن يستغل الإسلام لخدمة مشروعه الاشتراكي، وقد نجح هذا التوجه وبدأ دور الإسلام يضمحل في الدولة والمجتمع بسبب سنّ عدد من القوانين العلمانية التي تتعارض بوضوح مع الشريعة الإسلامية. وبدأ النتصل والتطاول على الشريعة مع تبني الأيديولوجية الاشتراكية ومع الحكم الديكتاتوري للجيش". ومن التناقضات أن الدولة الحديثة والاشتراكية التي سعت لهدم العشائرية والقبلية أصبحت مثالاث واضحا للعشائرية حين فضلت بعض العشائر على حساب الباقي.
في هذه الفترة –سبعينات وثمانينات القرن الماضي- التي قد تٌعد من أحلك الساعات للإسلام في الصومال، تعرفت البلاد على التيارات الإسلامية التي انتشرت في تلك الحقبة على أيدي خريجي الجامعات الإسلامية في مصر والسعودية الذين عادو الى البلاد لإعادة مكانة الإسلام ومقاومة الموجات التغريبية والعلمانية. سرعان ما نشأت العداوة بين هذه التيارات (السلفية والإخوان المسلمين) والدولة الاشتراكية ودفع العلماء ثمنا باهظا حيث سُجنو وعذبو وأٌعدم بعضهم في الساحات.
غير هذه التيارات الإسلامية التي تعارض الحكومة، كانت هناك تحركات وتحالفات عشائرية تتكون لاسقاط النظام العسكري، وسرعان ما لقت هذه الجبهات القبلية ملجأ وسندا من اثيوبيا وبدأت تشن غارات على القواعد الحدودية بين البلدين وتوغلت في البلاد الى ان دخلت مقديشو وأسقطت الحكومة.
عادت التيارات الاسلامية الى الصدارة وبكل قوة بعد سقوط النظام العسكري وافتتحت المراكز والمعاهد الشرعية والجامعات والمستشفيات وتولت رعاية الأيتام ولمت شتات الشعب تحت مظلة الشريعة، وسعت لإحياء الاقتصاد والإتصالات والتجارة بعد انهيار الدولة، كما تمكنت من المقاربة بين القبائل المتناحرة في ربوع البلاد. ومن ثم عادت الهوية الإسلامية اكثر قوة من قبل وانتششرت دراسات الشريعة.ولا بد من ذكر اعادة بناء الدولة المنهارة كانت تجري جنب الى جنب مع هذه الأعمال ولو كان دور التيارات في هذه العملية أدنى من أدوارهم في باقي الفعاليات.
من هذا التلخيص التاريخي القصير نستنتج أن الإسلام في الهوية الصومالية بمثابة الركيزة الأولى، ولا يمكن تعريف ما هوية الشعب الصومالي بدونه. كما نستنتج أن مزاعم التي تقول أن التيارات الإسلامية أسلمت الهوية الصومالية بعد انهيار الحكومة مزاعم غير واعية بالتاريخ وعيا تاما. لأن الفرق بين الهوية ما قبل الإستعمار وما بعد سقوط الحكومة (1991) ليس دور الإسلام فيها وإنما التيار الذي حمل العلم الشرعي وحفظ للأمة دينها. ففي فترة ما قبل الاستعمار كانت الحركات الصوفية بشيقيها القادرية والأحمدية حملت لواء العلم الشرعي في الصومال وحاربت الإستعمار بينما كان الدور للسلفية والإخوان المسلمين في فترة ما بعد انهيار الدولة.
المراجع
· اللغة هوية ..............د. مختار الغوث الشنقيطي
· عوائق النهضة الإسلامية........ علي عزت بيغوفيتش
· تاريخ الصومال: رؤية تحليلية جديدة.... د.عبدالحمن معلم عبدالله (باديو)
No comments yet. Login to start a new discussion Start a new discussion